فصل: ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ملك ولده الملك الصالح

لما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده وكان عمره إحدى عشرة سنة وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق وأقام بها وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم وصار مدبر دولته فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولمن معه من الأمراء‏:‏ قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه أصحاب نور الدين والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا ويجعل ذلك حجة علينا وهو أقوى منا لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر فلم يوافق هذا القول أغراضهم وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه‏.‏

فلما سار سيف الدين غازي صاحب الموصل وملك البلاد الجزرية على ما نذكرهن أرسل صلاح الدين أيضًا إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدولة بلاده وأخذها ليحضر في خدمته ويكف سيف الدين وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول‏:‏ لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي ن أو يثق به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر التي هي اعظم ممالكه وولاياته ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني وسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأجازي كلًا منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده‏.‏

وتمسك ابن المقدم وجماعة من الأمراء بالملك الصالح ولم يرسلوه إلى حلب خوفًا أن يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية فإنه كان أكبر الأمراء النورية وإنما منعه من الاتصال به والقيام على خدمته مرض لحق به وكان هو وأخوته بحلب وأمرها إليهم وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع به البلاد الجزرية من سيف الدين ابن عمه قطب الدين فلم يمكنه الأمراء الذين معه من الانتقال إلى حلب لما ذكرناه‏.‏

  ذكر ملك سيف الدين البلاد الجزرية

كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية الموصل وديار الجزيرة وغيرها يستدعي العساكر منها للغزاة والمراد غيرها وقد تقدم ذكره فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في عساكره وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة فهرب جريدة‏.‏

وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره وعاد إلى نصيبين فملكها وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه وأقطعه وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني فامتنع بها وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه وأخذ حران منه وسار إلى الرها فحصرها وملكها وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضًا عنها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها وكذلك سروج واستكمل ملك جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر فإنها كانت منيعة وسوى رأس عين فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خال سيف الدين فلم يتعرض إليها‏.‏

وكان شمس الدين علي بن الداية وهو أكبر الأمراء النورية بحلب مع عساكرها فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح فلم يرسل إليه لما ذكرناه ولما ملك سيف الدين الديار الجزرية قال له فخر الدين عبد المسيح وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه قطب الدين فظن أن سيف الدين يرعى له ذلكن فلم يجن ثمرة ما غرس وكان عنده كبعض الأمراء قال له‏:‏ الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع فقال له أكبر أمراءه وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار‏:‏ قد ملكت أكثر ما كان لأبيك والمصلحة أن تعود فرجع إلى قوله وعاد إلى الموصل ليقضي الله مرًا كان مفعولًا‏.‏

  ذكر حصر الفرنج بانياس وعودهم عنها

لما مات نور الدين محمود صاحب الشام اجتمعت الفرنج وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها فجمع شمس الدين محمد بن المقدم العسكر عنده بدمشق فخرج عنها فراسلهم ولاطفهم ثم أغلظ لهم بالقول وقال لهم‏:‏ إن أنتم صالحتمونا وعدتم عن بانياس فنحن على ما كنا عليه وإلا فنرسل إلى سيف الدين صاحب الموصل ونصالحه ونستنجده ونرسل إلى صلاح الدين بمصر فنستنجده ونقصد بلادكم من جهاتها كلها ولا تقومون لنا‏.‏

وأنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين والآن قد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم فلا يمتنع‏.‏

فعلموا صدقه فصالحوه على شيء من المال أخذوه وأسرى أطلقوا كانوا عند المسلمين وتقررت الهدنة‏.‏

فلما سمع صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يقح لهم ما فعلوه ويبذل من نفسه قصد بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجهم عن قصد شيء من بلاد الملك الصالح وكان قصده أن يصير له طريق إلى بلاد الشام ليتملك البلاد والأمراء الشاميون إنما صالحوا الفرنج خوفًا منه ومن سيف الدين غازين صاحب الموصل فإنه كان قد أخذ البلاد الجزرية وخافوا منه أن يعبر إلى الشام فرأوا صلح الفرنج أصلح من أن يجيء هذا من الغرب وهذا من الشرق وهم مشغولون عن ردهم‏.‏

في هذه السنة في المحرم وقع الحريق ببغداد فاحترق أكثر الظفرية ومواضع غيرها ودام الحريق إلى بكرة وطفئت النار‏.‏

وفيها في شعبان بنى ابن سنكا وهو ابن أخي شملة صاحب خوزستان قلعة بالقرب من الماهكي ليتقوى بها على الاستيلاء على تلك الأعمال فسير إليه الخليفة العساكر من بغداد لمنعه فالتقوا وحمل بنفسه على الميمنة فهزمها واقتتل الناس قتالًا عظيمًا وأسر ابن أخي شملة وحمل رأسه إلى بغداد فعلق بباب النوبي وهدمت القلعة‏.‏

وفيها في رمضان توالت الأمطار في ديار بكر والجزيرة والموصل فدامت أربعين يومًا ما رأينا الشمس فيها غير مرتين كل مرة مقدار لحظة وخربت المساكن وغيرها وكثر الهدم ومات تحته كثير من الناس وزادت دجلة زيادة عظيمة وكان أكثرها ببغداد فإنها زادت على كل زيادة تقدمت منذ بنيت بغداد بذراع وكسر وخاف الناس الغرق وفارقوا البلد وأقاموا على شاطئ دجلة خوفًا من انفتاح القورج وغيره وكانوا كلما انفتح موضع بادروا بسده ونبع الماء في البلاليع وخرب كثيرًا من الدور ودخل الماء إلى البيمارستان العضدي ودخلت السفن من الشبابيك التي له فإنها كانت قد تقلعت فمن الله على الناس بنقص الماء بعد أن أشرفوا على الغرق‏.‏

وفيها في جمادى الأولى كانت الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة وسببها أن الخليفة أمر بإعادة عضد الدين بن رئيس الرؤساء إلى الوزارة فمنع منه قطب الدين وأغلق باب النوبي وباب العامة وبقيت دار الخليفة كالمحاصرة فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته فقال قطب الدين‏:‏ لا أقنع إلا بإخراج عضد الدين من بغداد فأمر بالخروج منها فالتجأ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل فأخذه إلى رباطه وأجاره ونقله إلى دار الوزير بقطفتا فأقام بها ثم عاد إلى بيته في جمادى الآخرة‏.‏

وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد بن الخليفة وهو الذي صر خليفة من قبة عالية إلى ارض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح فألقى نفسه بعده وسلم ابن الخليفة ونجاح فقيل لنجاح‏:‏ لم ألقيت نفسك فقال‏:‏ ما كنت أريد البقاء بعد مولاي فرعى له الأمير أبو العباس ذلك فلما صار خليفة جعله شرابيًا وصارت الدولة جميعها بحكمه ولقبه الملك الرحيم عز الدين وبالغ في الإحسان إليه والتقديم له وخدمه جميع الأمراء بالعراق والوزراء وغيرهم‏.‏

وفيها في رمضان وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله فهدم الدور وقتل جماعة من الناس وكثيرًا من المواشي فوزنت بردة منها فكانت سبعة أرطال وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان‏.‏

هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه والعهدة عليه‏.‏

وفيها كانت وقعة عظيمة بين المؤيد ن صاحب نيسابور وبين شاه مازندران قتل فيها كثير من الطائفتين فانهزم شاه مازندران ودخل المؤيد بلد الديلم وخربه وفتك بأهله وعاد عنه‏.‏

وفيها وقعت وقعة كبيرة بين أهل باب البصرة وأهل باب الكرخ وسببها أن الماء لما زاد سكر أهل الكرخ سكرًا رد الماء عنهم فغرق مسجد فيه شجرة فانقلعت فصاح أهل الكرخ انقلعت الشجرة لعن الله العشرة‏!‏ فقامت الفتنة فتقدم الخليفة إلى علاء الدين تنامش بكفهم فمال على أهل باب البصرة لأنه كان شيعيًا وأراد خول المحلة فمنعه أهلها وأغلقوا الأبواب ووقفوا على السور وأراد إحراق الأبواب فبلغ ذلك الخليفة فأنكره أشد إنكار وأمر بإعادة تنامش فعاد ودامت الفتنة أسبوعًا ثم انفصل الحال من غير توسط سلطان‏.‏

وفيها عبر الروم خليج القسطنطينية وقصد بلاد قلج ارسلان فجرى بينهما حرب استظهر فيها المسلمون فلما رأى ملك الروم عجزه عاد إلى بلاده وقد قتل من عسكره جماعة كثيرة‏.‏

وفيها في جمادى الأولى مات أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله العلوي الحسيني نقيب العلويين ببغداد‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو العلاء الحسن بن احمد بن الحسن بن أحمد بن محمد العطار الهمذاني سافر الكثير في طلب الحديث وقراءة القرآن واللغة وكان من أعيان المحدثين في زمانه وكان له قبول عظيم ببلده عند العامة والخاصة‏.‏

وفيها توفي أبو محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي بالموصل وكان إمامًا في النحو له التصانيف المشهورة منها الغرة وغيرها‏.‏

  ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

  ذكر وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وانهزامه عنها

في هذه السنة في المحرم ظفر أهل الإسكندرية وعسكر مصر بأسطول الفرنج من صقلية وكان سبب ذلك ما ذكرناه من إرسال أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحل الشام وإلى صاحب صقلية ليقصدوا ديار مصر ليثوروا بصلاح الدين ويخرجوه من مصر فجهز صاحب صقلية أسطولًا كثيرًا عدته مائتا شيني تحمل الرجالة وست وثلاثون طريدة تحمل الخيل وستة مراكب تحمل آلة الحرب وأربعون مركبًا تحمل الأزواد وفيها من الراجل خمسون ألفًا ومن الفرسان ألف وخمسمائة منها خمسمائة تركبلي‏.‏

وكان المقدم عليهم ابن عم صاحب صقلية وسيره إلى الإسكندرية من ديار مصر فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين على حين غفلة من أهلها وطمأنينة فخرج أهل الإسكندرية بعدتهم وسلاحهم ليمنعوهم من النزول وابعدوا عن البلد فمنعهم الوالي من ذلك وأمرهم بملازمة السور ونزل الفرنج إلى البر مما يلي البحر والمنارة وتقدموا إلى المدينة ونصبوا عليها الدبابات والمجانيق وقاتلوا أشد قتال وصبر لهم أهل البلد ولم يكن عندهم من العسكر إلا القليل ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم وسيرت الكتب بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفع العدو عنهم ودام القتال أول يوم إلى آخر النهار ثم عاود الفرنج القتال في اليوم الثاني وجدوا ولازموا الزحف حتى وصلت الدبابات إلى قرب السور ووصل ذلك اليوم من العساكر الإسلامية كل من كان له في أقطاعة وهو قريب من الإسكندرية فقويت بهم نفوس أهلها وأحسنوا القتال والصبر فلما كان اليوم الثالث فتح المسلمون باب البلد وخرجوا منه على الفرنج من كل جانب وهم غارون وكثر الصياح من كل الجهات فارتاع الفرنج واشتد القتال فوصل المسلمون إلى الدبابات فأحرقوها وصبروا للقتال فأنزل الله نصره عليهم وظهرت أماراته ولم يزالوا مباشرين القتال حتى أخر النهار ودخل أهل البلد إليه وهم فرحون مستبشرون بما رأوا من تباشير الظفر وقوتهم وفشل الفرنج وفتور وأما صلاح الدين فإنه لما وصله الخبر سار بعساكره وسير مملوكًا له ومعه ثلاث جنائب ليجد السير عليها إلى الإسكندرية يبشر بوصوله وسير طائفة من العسكر إلى دمياط خوفًا عليها واحتياطًا لها فسار ذلك المملوك فوصل الإسكندرية من يومه وقت العصر والناس قد رجعوا من القتال فنادى في البلد بمجيء صلاح الدين والعساكر مسرعين فلما سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال و قد زال ما بهم من تعب وألم الجراح وكل منهم يظن ان صلاح الدين معه فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله‏.‏

وسمع الفرنج بقرب صلاح الدين في عساكره فسقط في أيديهم وازدادوا تعبًا وفتورًا فهاجمهم المسلمون عند اختلاط الظلام ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة والتحملات العظيمة وكثر القتل في رجالة الفرنج فهرب كثير منهم إلى البحر وقربوا شوانيهم إلى إلى الساحل ليركبوا فيها فسلم بعضهم وركب وغرق بعضهم وغاص بعض المسلمين بالماء وخرق بعض شواني الفرنج فغرقت فخاف الباقون من ذلك فولوا هاربين واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل فقاتلهم المسلمون إلى بكرة ودام القتال إلى أن أضحى النهار فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير كفى الله المسلمين شرهم وحاق بالكافرين مكرهم‏.‏

في أول هذه السنة خالف الكنز بصعيد مصر واجتمع إليه من رعية البلاد والسودان والعرب وغيرهم خلق كثير وكان هناك أمير من الصلاحية في أقطاعه وهو أخو الأمير أبو الهيجاء السمين فقتله الكنز فعظم قتله على أخيه وهو من أكبر الأمراء وأشجعهم فسار إلى قتال الكنز وسير معه صلاح الدين جماعة من الأمراء وكثيرًا من العسكر ووصلوا إلى مدينة طود فاحتمت عليهم فقاتلوا من بها وظفروا بهم وقتلوا منهم كثيراُ وذلوا بعد العز وقهروا واستكانوا‏.‏

ثم سار العسكر بعد فراغهم من طود إلى الكنز وهو في طغيانه يعمه فقاتلوه فقتل هو ومن معه من الأعراب وغيرهم وأمنت بعده البلاد واطمأن أهلها‏.‏

  ذكر ملك صلاح الدين دمشق

في هذه السنة سلخ ربيع الأول ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق‏.‏

وسبب ذلك أن نور الدين لما مات وملك ابنه الملك الصالح بعده كان بدمشق كان سعد الدين كمشتكين قد هرب من سيف الدين غازي إلى حلب كما ذكرناه فأقام بها عند شمس الدين بن الداية فلما استولى سيف الدين على البلاد الجزرية خاف ابن الداية أن يغير إلى حلب فيملكها فأرسل سعد الدين إلى دمشق ليحضر الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين محمد بن المقدم عسكرًا فنهبوه وعاد منهزمًا إلى حلب فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه ثم إن الأمراء الذين بدمشق نظروا في المصلحة فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق فأرسلوا إلى ابن الدية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح فجهزه وسيره وعلى نفسها براقش تجني فسار إلى دمشق في المحرم من هذه السنة واخذ الملك الصالح وعاد إلى حلب فلما وصلوا إليها قبض سعد الدين على شمس الدين بن الداية وأخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومقدم الأحداث فيها ولولا مرض شمس الدين بن الداية لم يتمكن من ذلك‏.‏

واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وقالوا‏:‏ إذا استقر أمر حلب أخذ الملك الصالح وسار به إلينا وفعل مثل ما فعل بحلب وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليعبر الفرات إليهم ليسلموا إليه دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه وعسكر حلب من وراء ظهره فيهلك‏.‏

وأشار عليه بهذا زلفندار عز الدين والجبان يقدر البعيد من الشر قريبًا ويرى الجبن حزمًا كما قال‏:‏ يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك طبيعة الرجل الجبان فلما أشار عيه بهذا الرأي زلفندار قبله وامتنع عن قصد دمشق وراسل سعد الدين الملك الصالح وصالحهما على ما أخذه من البلاد فلما امتنع عن العبور إلى دمشق عظم خوفهم وقالوا‏:‏ حيث صالحهم سيف الدين لم يبق لهم مانع عن المسير إلينا فكاتبوا حينئذ صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر واستدعوه ليملكوه عليهم وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم ومن أشبه أباه فما ظلم وقد ذكرنا مخامرة أبيه في تسليم سنجار سنة أربع وأربعين وخمسمائة‏.‏

فلما وصلت الرسل إلى صلاح الدين بذلك لم يلبث وسار جريدة في سبع مائة فارس والفرنج في طريقه فلم يبال بهم فلما وطئ ارض الشام قصد بصرى وكان بها حينئذ صاحبها وهو من جملة من كاتبه فخرج ولقيه فلما رأى قلة من معه خاف على نفسه واجتمع بالقاضي الفاضل وقال‏:‏ ما أرى معكم عسكرًا وهذا بلد عظيم لا يقصد بمثل هذا العسكر ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد فإن كان معكم مال سهل الأمر‏.‏

فقال معنا مال كثير يكون خمسين ألف دينار فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال‏:‏ هلكتم وأهلكتمونا وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار‏.‏

ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كل من بها من العسكر إليه فلقوه وخدموه ودخل البلد ونزل في دار والده المعروفة بدار العقيقي وكانت القلعة بيد خادم اسمه ريحان فأحضر صلاح الدين كمال الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكم في جميع أموره من الديوان والوقف وغير ذلك وأرسله إلى ريحان ليسلم القلعة إليه وقال‏:‏ أنا مملوك الملك الصالح وما جئت إلا لأنصره وأخدمه وأعيد البلاد التي أخذت منه إليه وكان يخطب له في بلاده كلها فصعد كمال الدين إلى ريحان ولم يزل معه حتى سلم القلعة فصعد صلاح الدين غليها وأخذ ما فيها من الأموال وأخرجها واتسع بها وثبت قدمه وقويت نفسه وهو مع هذا يظهر الطاعة للملك الصالح ويخاطبه بالمملوك والخطبة والسكة باسمه‏.‏

  ذكر ملك صلاح الدين مدينتي حمص وحماة

لما استقر ملك صلاح الدين لدمشق وقرر أمرها استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغدكين بن أيوب وسار إلى مدينة حمص مستهل جمادى الأولى وكانت حمص وحماة وقلعة بعين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاع الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكنه المقام بها لسوء سيرته في أهلها ولم يكن له في قلاع هذه البلاد حكم إنما فيها ولاة لنور الدين‏.‏

وكان بقلعة حمص وال يحفظها فلما نزل صلاح الدين على حمص حادي عشر الشهر المذكور راسل من فيها بالتسليم فامتنعوا فقاتلهم من الغد فملك البلد وأمن أهله وامتنعت عليه القلعة وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب على ما نذكره إن شاء الله وترك بمدينة حمص من يحفظها ويمنع من بالقلعة من التصرف وأن تصعد إليهم ميرة‏.‏

وسار إلى مدينة حماة وهو في جميع أحواله لا يظهر إلا طاعة الملك الصالح بن نور الدين وانه إنما خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج واستعادة ما أخذه سيف الدين صاحب الموصل من البلاد الجزرية فلما وصل إلى حماة ملك المدينة مستهل جمادى الآخرة وكان بقلعتها الأمير عز الدين جورديك وهو من المماليك النورية فامتنع من التسليم إلى صلاح الدين فأرسل إليه صلاح الدين ما يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح وإنما يريد حفظ بلاده عليه فاستحلفه جورديك على ذلك فحلف له وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة على طاعة الملك الصالح وفي إطلاق شمس الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن فسار جورديك إلى حلب واستخلف بقلعة حماة أخاه ليحفظها فلما وصل جورديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها‏.‏

  ذكر حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها

لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة فقاتله أهلها وركب الملك الصالح وهو صبي عمره اثنتا عشر سنة وجمع أهل حلب وقال لهم‏:‏ قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق وقال من هذا كثير وبكى فأبكى الناس فبذلوا له الأموال والأنفس واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده وجدوا في القتال وفيهم شجاعة وقد ألفوا الحرب واعتادوها حيث كان الفرنج بالقرب نهم فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل حوشن فلا يقدر على القرب من البلد‏.‏

وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية وبذل له أموالًا كثيرة ليقتلوا صلاح الدين فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين صاحب قلعة أبي قبيس فعرفهم لأنه جارهم في البلاد كثير الاجتماع بهم والقتال لهم فلما رآهم قال لهم‏:‏ ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم فجرحوه جراحات مثخنة وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله فقتل دونه وقاتل الباقون من الإسماعيلية فقتلوا جماعة ثم قتلوا‏.‏

وبقي صلاح الدين محاصرًا لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة ورحل عنها مستهل رجب وسبب رحيله أن القمص ريمند الصنجيلي صاحب طرابلس كان قد أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة وبقي في الحبس إلى هذه السنة فأطلقه سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير فلما وصل إلى بلده اجتمع الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة وكان عظيمًا فيهم من أعيان شياطينهم فاتفق أن مري ملك الفرنج لعنه الله مات أول هذه السنة وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأيًا ومكرًا ومكيده فلما توفي خلف ابنًا مجذومًا عاجزًا عن تدبير الملك فملكه الفرنج صورة لا معنى تحتها وتولى القمص ريمند تدبير الملك وإليه الحل والعقد عن أمره يصدرون فأرسل إليه من بحلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد صلاح الدين ليرحل عنهم فسار إلى حمص ونازلها سابع رجب فلما تجهز لقصدها سمع صلاح الدين الخبر فرحل عن حلب فوصل إلى حماة ثامن رجب بعد نزول الفرنج على حمص بيوم ثم رحل إلى الرستن فلما سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص ووصل صلاح الدين إليها فحصر القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة فصار أكثر الشام بيده‏.‏

ولما ملك حمص سار منها إلى بعلبك وبها خادم اسمه يمن وهو وال عليها من أيام نور الدين فحصرها صلاح الدين فأرسل يمن يطلب الأمان له ولمن عنده فأمنهم صلاح الدين وسلم القلعة رابع شهر رمضان من السنة المذكورة‏.‏

لما ملك صلاح الدين دمشق وحمص وحماة كتب الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين إلى ابن عمه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود يستنجده على صلاح الدين ويطلب أن يعبر إليه ليقصدوا صلاح الدين ويأخذوا البلاد منه فجمع سيف الدولة عساكره وكاتب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار يأمره أن ينزل إليه بعساكره ليجتمعا على المسير إلى الشام فامتنع من ذلك‏.‏

وكان صلاح الدين قد كاتب عماد الدين وأطمعه في الملك لأنه هو الكبير فحمله الطمع على الامتناع عن أخيه فلما رأى سيف الدين امتناعه جهز أخاه عز الدين مسعودًا في عسكر كثير هو معظم عسكره وسيره إلى الشام وجعل المقدم على العسكر مع أخيه عز الدين محمود ويلقب أيضًا زلفندار وجعله المدبر للأمر وسار سيف الدين إلى سنجار فحصرها في شهر رمضان وقاتلها وجد في القتال وامتنع عماد الدين بها وأحسن حفظها والذب عنها فدام الحصار عليها فبينما هو يحاصرها أتاه الخبر بانهزام عسكره مع أخيه عز الدين مسعود من صلاح الدين فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده ورحل إلى الموصل وثبت قدم صلاح الدين بعد الهزيمة وخافه الناس وترددت الرسل بينه وبين سيف الدين غازي في الصلح فلم يستقر حال‏.‏